حكمة التنوع الطبيعي
كنت ألاحظ في طفولتي أن مزارعي قريتنا، وعلى الرغم من بساطة معارفهم وعدم تلقيهم تعليمًا زراعيًا أكاديميًا، كانوا، بفطرتهم وتجاربهم المتراكمة، يزرعون بين شتول الخضروات نباتات من الحبق (Basil) أو القطيف (Marigold). لم أكن أفهم آنذاك مغزى هذا التصرف، ولم يكونوا هم أنفسهم يملكون تفسيرًا علميًا له. لكنهم، دون أن يعلموا، كانوا يطبقون أحد المبادئ الأساسية في علم الزراعة المستدامة والبيئة الزراعية المتكاملة.
فقد أظهرت الدراسات العلمية الحديثة أن زراعة نباتات ذات خصائص طاردة للحشرات أو جاذبة للأعداء الطبيعية للآفات بين المحاصيل الغذائية تُعدّ من أنجع الوسائل في حماية المزروعات من الحشرات الضارة دون الحاجة إلى استخدام المبيدات الكيميائية. فالحبق مثلاً يحتوي على زيوت طيارة تعمل على طرد بعض أنواع الحشرات مثل الذباب الأبيض والمنّ، في حين أن نبات القطيف يُعرف بإفرازه لمواد كيميائية في التربة تقلل من أعداد الديدان الخيطية (Nematodes) وتحدّ من انتشار بعض الحشرات، فضلاً عن جذب الحشرات المفيدة كالدعسوقة التي تتغذى على الآفات الزراعية.
هذا المثال الزراعي البسيط يحمل في طياته دلالة أعمق تتجاوز حدود الزراعة لتطال المجتمعات البشرية. فكما أن تنويع الغطاء النباتي في الحقول الزراعية يسهم في تقوية النظام البيئي ويقلل من اعتماد المزارع على حلول صناعية مؤذية، كذلك فإن تنوع البشر في الأفكار والثقافات والانتماءات داخل المجتمع يكوّن نسيجًا متماسكًا غنيًا قادرًا على مواجهة التحديات والحفاظ على استقراره وتوازنه.
إن المجتمعات التي تحتضن التنوع البشري وتحترمه غالبًا ما تكون أكثر قدرة على الابتكار، وأسرع في التكيف، وأكثر مناعة تجاه التطرّف والانحرافات الفكرية أو السلوكية التي قد تنشأ في البيئات المنغلقة أو المتجانسة بشكل مفرط. فالتنوع هنا ليس مجرد حالة واقعية بل هو ضرورة بيولوجية واجتماعية لضمان استمرارية المجتمع وتطوره.
وهكذا، فإن دروس الطبيعة، وإن بدت بسيطة أو عفوية في ظاهرها، كثيرًا ما تحمل في عمقها حكمة عميقة، تدعونا للتأمل وإعادة قراءة ما نظنه "بداهات" الحياة بعين أكثر وعيًا وشمولية.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليق